البغدادي . وفى ذلك العصر
انفتح المسلمون على الآخر بدون تردد , وهو أمر ساعدهم عليه واقع أن المبادرة
التاريخية على الصعيد العالمي كانت في طور الانتقال إلى أيديهم . (14)
ولا عجب أن ابن خلدون قد أشار ومنذ وقت مبكر إلى هذه الرؤية , رافضا أي تفسير
صدفوى لهذه الحركة الناهضة في بغداد والتي وصل صداها غربا إلى الأندلس . فيقول في
مقدمته " لما انقرض أمر اليونان وصار الأمر للقياصرة وأخذوا بدين النصرانية
هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل والشرائع فيها ، وبقيت في صحفها ودواوينها
مخلدة باقية في خزائنهم قد ملكوا الشام وكتب هذه العلوم باقية فيها . ثم جاء
اللَّه بالإسلام وكان لأهله الظهور الذي لا كفاء له ، وابتزّوا الروم ملكهم فيما
ابتزوه للأمم ، وابتدأ أمرهم بالسذاجة والغفلة عن الصنائع ، حتى إذا تبحبح من
السلطان والدولة وأخذ الحضارة بالحظ الذي لم يكن لغيرهم من الأمم وتفننوا في
الصنائع والعلوم ، تشوقوا في الاضطلاع على هذه العلوم الحكمية بما سمعوا من
الأساقفة والأقسّة المعاهدين بعض ذكر منها وبما تسمو إليه أفكار الإنسان فيها ،
فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة فبعث إليه
بكتاب اقليدس وبعض كتب الطبيعيات ، فقرأها المسلمون واضطلعوا على ما فيها وازدادوا
حرصاً على الظفر بما بقي منها (13)
من الواضح أن ا بن خلدون كان على وعى تام بالسياق الحضاري الذي اندفعت فيه الحضارة
الإسلامية . ليس فحسب على صعيد هضم معارف الأمم والحضارات السابقة , بل كذلك على
صعيد تمثل هذه المعارف والإضافة إليها . غير أننا يجب أن نقف قليلا أمام الخليفة
المأمون.
فإذا كان حكيم آل مروان , الأمير خالد بن يزيد بن معاوية ( الأموي ) يمثل خطا
فاصلا بالنسبة لحركة الترجمة والنقل ( باعتباره الذي استطاع مواربة الباب الصدىء )
, فإن حكيم بنى العباس , الخليفة عبدا لله المأمون الذي تولى الخلافة سنة 198
هجرية , يمثل هو الآخر خطا فاصلا لذات الحركة .
فمن قبله انحصر اهتمام خلفاء بنى العباس , ومن بينهم المنصور والرشيد والأمين , في
ترجمة بعض كتب الطب والفلك والرياضيات , إضافة إلى بعض كتب الأدب عن السريانية
والفارسية والهندية . فنقل إبراهيم بن حبيب الفزارى ما عرف بكتاب السند هند في علم
الحساب . ونقل الحجاج بن يوسف بن مطر كتاب المجسطى وسميت بالترجمة الهارونية
تمييزا عن الترجمة المأمونية المتأخرة التي قام بها الحجاج في عهد المأمون . كذلك
نقل أول عمل نثرى له شأن في العربية " كليلة ودمنة " نقله عبد الله بن
المقفع عن اللغة الفهلوية " الفارسية القديمة " والذي نقل إليها بدوره
عن اللغة السنسكريتية " الهندية " . وقد كتبه في الأصل الفيلسوف الهندي
بيدبة إلى دبشليم الملك . ومما يجدر الإشارة إليه أن ابن المقفع قد زاد عليه ستة
فصول . (14) الأمر الذي ينطوي على دلالة تنعكس على مستوى الترجمة . فلابد أن ابن
المقفع استوعب مادة الكتاب جيدا وتشربها بما يكفى لكي ينسج على منوالها ما يمكن أن
نسميه امتدادا طبيعيا من لحم ودم هذه المادة الأدبية . ولا عجب أن تتناول الشروحات
الأدبية براعة ابن المقفع وجزالة أسلوبه في هذه الترجمة إلى درجة أن بعض المؤرخين
ينسبون إليه الكتاب برمته . وفى رأيي أنه شك لا يستقيم مع مسألة كونه زاد عليه ستة
فصول . لأنه إذا اقترضنا أن ابن المقفع هو الذي وضع الكتاب في الأصل تأليفا وادعى
أناس ما لاعتبارات ما أنه نقله أو ترجمه لعمل هؤلاء المدعين على إبعاد أي شبهة تمت
إلى الحقيقة بصلة (مثل أنه ألف جزءا منه ) ومن شأنها تؤدى للشك فيما ادعوه , ولما
تسربت إلينا عندئذٍ مسألة أنه زاد عليه عدة فصول . لذا فتلك الحقيقة التي مفادها
انه زاد من عنده على أصل الكتاب إنما جاءت لنفى التهمة بأنه هو الذي وضعه من أوله
إلى آخره .
ومع تولى المأمون الذي لبث في سدة الحكم عشرين عاما 198- 218 هجرية , شهدت حركة
الترجمة على يده تغيرا نوعيا وكميا . فقام بفتح الباب على مصراعيه أمام هذه الحركة
. وبرغم الجدل التاريخي الذي دار حول أيهما أنشأ بيت الحكمة , الرشيد أم المأمون ؟
إلا أن الدار على أية حال لم تأخذ شكلها الذي يشبه الخلية سوى في عهد المأمون .
فكانت بمثابة أكاديمية تعمل بكل طاقتها في ترجمة وتأليف الكتب , واعتبرت آنذاك أحد
مناشط الدولة الرسمية . ويذهب المؤرخون وعلى رأسهم ابن خلدون أن حركة النقل
والترجمة تم توظيفها بعض الشيء من جانب المأمون لخدمة عقيدته الاعتزالية حتى
يمكننا القول على استحياء بأنها حركة باتت موجهة . أشار إلى ذلك ابن خلدون إذ يقول
في مقدمته " وجاء المأمون بعد ذلك وكانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله ،
فانبعث لهذه العلوم حرصاً وأوفد الرسل على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين
وانتساخها بالخط العربي وبعث المترجمين لذلك . فأوعى منه واستوعب ، وعكف عليه النُظّار
من أهل الإسلام وحذقوا في فنونها وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها "(15)
فقام المأمون بالحث على ترجمة الكتب اليونانية في الفلسفة والمنطق حتى يستخدمها في
الرد على خصومه من النحل الأخرى . ولا عجب أن تحدثنا المصادر عن أن المأمون نفسه
كان مناظرا بارعا .
وعلى وتيرة أخرى يشير ديمتري جوتاس في كتابه Greek Thought, Arabic literature إلى عامل مشابه في وصفه لكيفية وصول العباسيين إلى الحكم , وكيفية
استخدامهم الترجمات كوسيلة أيدلوجية لتبرير وتثبيت حكمهم . فكانت الترجمات بمثابة
سلاح ضد الخصوم سواء من العرب أو من الفرس , لدى الرعية المسيحية وبين رجال الدين
المسلمين . كانت دعاية العباسيين تقول بأنهم أحق وريث لكل الخلافات السابقة عليهم
ولكل العلوم الموروثة ولاسيما اليونانية منها. (16 )
وكان بديهيا أن يتوسل حكيم بنى العباس الوسائل للحصول على هذه الكتب يقول ديورانت
" أن أحد شروط الصلح بين المأمون والإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثالث أن
ينزل هذا للمأمون عن إحدى المكتبات الشهيرة في القسطنطينية . وكان من بين ذخائرها
كتاب بطليموس في الفلك . فأمر المأمون بنقله إلى العربية "
كذلك كان يجد في إرسال البعثات إلى بلاد الروم . يقول صاحب الفهرست
" إن المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات وقد استظهر عليه المأمون يكتب
إليه في إنقاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة في بلده . فأجاب بعد امتناع .
فأخرج المأمون لذلك جماعة من بينهم الحجاج بن مطر وابن البطريق وسلما صاحب بيت
الحكمة فأخذوا مما وجدوا ما اختاروه . فلما حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل
"(17)
غير أنني أرى أن تدخل هذا العامل الأيدولوجى لدى المأمون يمثل أحد العوامل
الجوهرية التي أدت إلى إثراء هذه الحركة وليس إفقارها . وربما لولا تدخل هذا
العامل لما عرف العرب شيئا عن المنطق والفلسفة اليونانية , وتباعا لما عرف الغرب
نفسه شيئا عن هذه العلوم.
ملاحظات عامة
تعد حركة النقل والترجمة التي حدثت إبان العصر العباسي أول حركة مكرسة ومنظمة في
التاريخ , وذلك لتعدد مصادرها . فقد ترجم العرب عن اليونانية والفارسية والهندية
والسريانية والقبطية . أيضا تميزت بتنوعها إذ راحت تغطى كل العلوم على اختلافها من
الفلسفة والمنطق والطب والفلك والرياضيات والكيمياء والطبيعيات والأدب . ناهيك عن
أنها روعيت من قبل الحكام . فتم إنشاء ديوان الترجمة في عهد المنصور , وقد تطور
بدوره في عهد المأمون ليصبح دار الحكمة . وبذل الحكام الغالي والنفيس للمترجمين
حتى يجدوا في عملهم .
لاشك أن الترجمة ساهمت في تطوير الفكر العربي . فلقد تمثل العرب هذه العلوم
المترجمة ثم أعملوا فكرهم فكانت لهم إنجازات جوهريه اقترنت بأسمائهم في شتى العلوم
. وبرز علماء مثل الرازي وابن النفيس .كذا ساهمت الترجمة في تطوير اللسان العربي
وكان هذا أمرا لا مناص منه حتى تستوعب العربية هذه العلوم المختلفة التي تعد وافدة
عليها. فدشنت كلمات جديدة مثل الهندسة والقنطار والدرهم والقسطاس .
من الملاحظ ندرة الكتب المترجمة فى الأدب إبان فترة المد الثقافي تلك , ومن
الملاحظ على حد السواء أن معظم الكتب الأدبية التي ترجمت , إن لم يكن جميعها , قد
نقل عن الفارسية . وهذا أمر لا يستعصى على التفسير . ففيما يتعلق بندرة الكتب
الأدبية المترجمة يمكن إرجاع ذلك إلى سببين . الأول أن الدولة الإسلامية كانت في
طور الاتساع والتمدد فظهرت الحاجة إلى العلوم العملية التي يمكن بواستطها إدارة
هذه الدولة على اتساعها . والسبب الثاني انه كان لدى العرب رصيد أدبي كبير وكانوا
يعتزون به أيما اعتزاز. الأمر الذي جعلهم لا يرغبون في ترجمة آداب الأمم الأخرى .
أما فيما يتعلق باقتصار ترجمة الكتب الأدبية عن اللغة الفارسية فحسب . فربما كان
ذلك لقرب بلاد فارس منهم . كذلك فإن الأدب الفارسي كان الأقرب إلى ذوق العرب
ومشاعرهم من الآداب الأخرى كاليونانية مثلا .
ضرب العرب مثلا حضاريا في أن أحد مبادىء النهضة لأي أمه هي أن تنفتح على الآخر
وتستلهم علوم ومعارف الأمم الأخرى , حتى إذا وقفت على ذلك كله تسنى لها أن تحقق
إضافتها الخاصة بها في رصيد الإنجاز البشرى الحضاري . والأمم في هذا أشبه بعدائي
سباق التتابع . لدى نهاية كل مسافة تسلم أمة ما عصا التتابع لأمة أخرى . وفى ذلك
الوقت البائد استلم العرب العصا , وسلموها فيما بعد لأوروبا التى سامتها بدورها إلى
العالم الجديد . ولكن متى يتسلمها العرب مرة ثانية